صادمة هي التصريحات التي تحدث بها مساء يوم أمس الخميس، وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، حول لقاءه بنظيره السوري فيصل المقداد، وكذلك دعوته من خلال تلك التصريحات إلى عقد “مصالحة” بين حكومة دمشق والمعارضة السورية من أجل ضمان حصول سلام دائم في سوريا وفق تعبيره.
وكالة الأنباء التركية الرسمية “الأناضول” عادت بعد نشرها لتصريحات جاويش أوغلو لتصحح كلمة واحدة في تصريحاتها، فغيّرت المصالحة إلى اتفاق، لكن فعليا فإن هذا التصحيح لا يغير من المعنى شيء، فقد عكست تصريحات وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، طبيعة الموقف التركي الحالي تجاه الملف السوري، وتأثير تجاذبات كسب الرأي العام التركي بين حكومة العدالة التنمية وأحزاب المعارضة قبل بداية الانتخابات العامة في تركيا، الصيف المقبل.
تشير المتغيرات إلى أن هذا الموقف التركي قد يتحول إلى سياسة جديدة لأنقرة تجاه دمشق، تنسى فيها الحكومة التركية كل الخطوط الحمراء التي وضعتها أمام دمشق بعد اندلاع الحراك الشعبي، والاتجاه نحو إلغاء سياسة العداء لدمشق، وقد يكون إعلان التقارب بين الطرفين أقرب من أي وقت مضى.
إذا فالسياسة التركية الخارجية تجاه الملف السوري تجاوزت كل المبادئ التي أعلنت عنها منذ وقوف أنقرة إلى جانب المعارضة السورية المناوئة لحكومة دمشق، إلا أن “لعبة الانتخابات” وضغط الاقتصاد وحتى على ما يبدو فشل السياسة الخارجية لأنقرة في عدة ملفات منها السوري، سيدفع الحكومة التركية الحالية إلى صياغة سياسة جديدة خاصة بالملف السوري قد نشهد فيها تبديلا كبيرا في المواقف التي كانت انتهجتها أنقرة ضد دمشق خلال السنوات الماضية.
جاويش أوغلو، كشف أمس الخميس، أنه أجرى محادثة قصيرة مع وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، على هامش اجتماع “حركة عدم الانحياز”، الذي عقد في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بالعاصمة الصربية بلغراد.
وقال الوزير التركي حول ذلك: “أجريت محادثة قصيرة مع وزير الخارجية السوري في اجتماع دول عدم الانحياز ببلغراد”.
فيما شدد جاويش أوغلو، على ضرورة وجوب تحقيق مصالحة بين “المعارضة السورية” وحكومة دمشق في سوريا بطريقة ما، مبينا أنه لن يكون هناك سلام دائم دون تحقيق ذلك.
انقلاب بالموقف التركي
ليس جديدا الحديث التركي عن وجود اتصالات مع دمشق، لكن خلال الفترة الماضية كان هذا الحديث يقتصر على التواصل الاستخباراتي، ولكن بعد قمة سوتشي الأخيرة بين الرئيسي فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان، برز تطور آخر بناء على اقتراح بوتين يعتلق بتعاون تركي سوري حول مكافحة الإرهاب، ولكن ما كان مفاجئا هي تصريحات وزير الخارجية التركي، جاويش أوغلو، مساء أمس الخميس حول لقائه بوزير خارجية دمشق في بلغراد، وأهمية التوصل لتوافق أو مصالحة بين دمشق والمعارضة السورية، ما يشكل انقلابا كليا في الموقف التركي من الأزمة السورية.
طه عودة أوغلو، الباحث بالشأن التركي والعلاقات الدولية، يرى خلال حديثه لـ”الحل نت”، أن تصريحات وزير الخارجية جاويش أوغلو يوم أمس الخميس، هي انقلاب شامل في الموقف التركي بعد أيام قليلة من كشف صحيفة “تركيا” المعروفة بقربها من الحكومة قبل يومين، أنه صار بإمكان أردوغان والأسد التحدث عبر الهاتف بعد تهيئة الظروف المناسبة لذلك.
وأضاف طه أوغلو، إنه “يمكن وصف التصريحات التركية التي جاءت متدرجة بالإستدارة الكبرى في مسار العلاقات التركية السورية المتوترة منذ الثورة السورية في مارس 2011”.
وحول توقيت تصريحات الوزير التركي، أوضح طه أوغلو، أن اللافت في توقيت تصريح الوزير التركي، أنها جاءت بعد أسابيع قليلة من قمة طهران التي جمعت زعماء إيران وروسيا وتركيا تحت مظلة “مجموعة أستانة” والتي بحثت الملفات المتعلقة بالأزمة في سوريا، والأهم أيضا أنها جاءت بعد أيام من قمة سوتشي التي جمعت بوتين مع أردوغان، والتي طرحت تساؤلات حول ما إذا كانت تشير إلى تفاهمات جرى التوصل إليها خلال القمة.
ولعل التصريحات الجديدة هي مؤشرات على أن تركيا تقوم بإعادة تقييم لموقفها إزاء الملف السوري بما في ذلك العلاقة مع حكومة دمشق، وذلك قبل أشهر قليلة من موعد الإنتخابات المصيرية في تركيا.
من جهته، الباحث في الشأن التركي، فراس أوغلو، يرى خلال حديثه لـ”الحل نت”، أن موقف تركيا نوع من أنواع الاستدارة في السياسة الخارجية التركية بشكل عام، والملف السوري جزء من هذه السياسة لأنه مرتبط بأجندات كبيرة مع روسيا وإيران، وهناك خيارات محددة للحل، فإما التصادم واستمرار الحرب أو الجمود كما هو الحال في مسار “أستانا”، أو كما قال الوزير أوغلو، أنه لا بد من إيجاد صيغة توافق أو مصالحة بين المعارضة السورية وحكومة دمشق والتوصل لسلام دائم، وبعد ذلك يتم حل كل الأمور الباقية كالدستور والانتخابات.
ما هي مصلحة تركيا؟
بحسب العديد من المؤشرات الناتجة عن قمة طهران الثلاثية، وقمة سوتشي الثنائية اللاحقة، فإن هناك تحولا في الموقف التركي من العملية العسكرية التي كانت تنوي تنفيذها في الشمال السوري، بالإضافة إلى ما تركته الحرب الروسية في أوكرانيا من آثار سلبية على العالم ككل، جعل معظم الدول ومن بينها تركيا تفكر بالتهدئة.
وفي هذا السياق، يرى فراس أوغلو، أنه من الواضح أن العملية العسكرية التركية ضد “قسد” والتي أعلنت عنها تركيا مرارا وتكرارا، قد توقفت وذلك يأتي في إطار التنسيق والتفاهم التركي الروسي، وبالطبع فإن هذا التنسيق قد مر على طهران ودمشق، لكن هذا لا يعني أن هناك خطوات كبيرة قد اتخذت في هذا الإطار وإنما من الواضح أن تَسارع تلك الخطوات زاد بشكل أكثر وضوحا من ذي قبل وأن تأثير تبعات الحرب الروسية الأوكرانية وخاصة في مسألة الغذاء والطاقة جعلت الجميع يتأنى ويتراجع عن حدة مواقفه فالسعي نحو التهدئة بات الخيار الاستراتيجي المفضل أكثر لدى أنقرة.
وأضاف فراس أوغلو، أنه بعد تحولات الحرب الروسية في أوكرانيا، فإن كل شيء سوف يتغير في العالم، ولذلك لا بد أن يكون هناك تغيير في الملف السوري، ومن الواضح أن هناك خطوة من كل الأطراف في هذا الملف أي (روسيا، تركيا، إيران، سوريا)، للتوصل لاتفاق بشأن الملف السوري.
وأما حول مصلحة تركيا من هذه الخطوات، أوضح فراس أوغلو، أن تركيا ستستفيد من إعادة التموضع في السياسة الخارجية من خلال تغييرها لسياستها الحالية، إضافة لجلب الاستقرار السياسي والاقتصادي لها ولسوريا على حد سواء، إضافة إلى الانتخابات الرئاسية القادمة والتي سيشكل الحل في سوريا عاملا مهما بالنسبة للحكومة الحالية.
ولفت فراس أوغلو، إلى أن تركيا لا بد أن تكون توصلت لاتفاق حول حماية حدودها الجنوبية، وفي نفس الوقت إدخال المعارضة السورية كجزء من نظام الحكم في سوريا، وهناك عمل كبير تقوم به مع روسيا في هذا المجال ستظهر نتائجه خلال المرحلة القريبة القادمة.
من الواضح أن تفاهما مهما حول إيجاد حل للأزمة السورية تم الاتفاق عليه في قمة سوتشي بين أردوغان وبوتين، بدأت نتائجه بالظهور بعد القمة وخاصة تصريحات الوزير التركي، لكن يبقى الانتظار حول كيفية ترجمة هذه التصريحات والتوافقات إلى خطوات عملية تدل المؤشرات على أن هناك تسارعا في السير نحو تطبيقها