هل بقي للعرب مكانة..؟
هل سيكرر التاريخ نفسه وتتحول الكيانات العربية إلى طوائف وإمارات تستجدي الحماية الأجنبية، كما حدث ذات يوم مع العرب في الأندلس؟! فما يعيشه العرب اليوم -كبقايا دول وإمارات وشعوب- يُذكّر كثيراً بذلك. فالروابط بينهم والتكتلات تكاد تكون معدومة، وإن وجدت فهي بلا فاعلية. وأما الأمر الآخر الذي يميزهم، فهو البحث عن حامٍ قوي يستظلون بحمايته، وخاصة أن غالبية الحكام قد وصلوا إلى السلطة عن طريق الانقلابات، وبنوا سلطاتهم بطريقة تعادي الشعوب، إذ منعوها من المشاركة في تقرير مصيرها، بل سلبوها أبسط الحقوق الأساسية للبشر، وهو حق الحياة، فالأصوات المعارضة بات مكانها السجون ومن ثم الموت، مما سهل بالنهاية عملية تفتيت تلك الكيانات وهزيمتها
يمكن القول إن أولى الضربات الكبرى للنظام العربي الرسمي، وللعرب عموماً، كانت مع الهزيمة الساحقة في حزيران 1967 أمام إسرائيل، تلك الهزيمة التي كرّست حكم الأنظمة “الثورية” الدكتاتورية القائمة واللاحقة، وأبرزت بشكل جلي هشاشة الأنظمة وبناها، عدا عنفها وشراستها تجاه الداخل. ثم أتت حرب 1973، آخر الحروب مع إسرائيل، ففتحت الباب أمام العلاقات الثنائية معها. أما الضربة النهائية لحال العرب، كجماعة وكيانات، فكانت مع احتلال العراق، الذي كرّس هيمنة الولايات المتحدة ونهاية الحرب الباردة، حيث ظهرت الأيديولوجيات الجديدة (نهاية التاريخ) المبررة لهذه الهيمنة، التي تدعو إلى فرض الديمقراطية بالقوة، وهو ما أعطى المجال لبروز قوى إقليمية محيطة بالمنطقة العربية، وفتح شهيتها نحو الحصول على حصة من النفوذ بتوافق مع الهيمنة المطلقة الأميركية
إسرائيل سعت إلى إقامة علاقات أمنية وتجارية وحتى سياسية، وإن كان معظمها في السر، بينما نجحت إيران، بتغاضٍ أميركي واضح، في توسعها وهيمنتها على لبنان والعراق وسوريا واليمن
برزت عقب ذلك ثلاث قوى إقليمية محيطة بالعرب، وهي إسرائيل وإيران وتركيا، ولكل منها مصالحها الخاصة، حيث يتشاركون في بعض المصالح المتشابكة الاقتصادية والأمنية والسياسية، ويتخاصمون حول بعضها الآخر، لكن المشترك بينها أن موضوع تصارعها وميدانه هو المنطقة العربية. فإسرائيل سعت إلى إقامة علاقات أمنية وتجارية وحتى سياسية، وإن كان معظمها في السر، بينما نجحت إيران، بتغاضٍ أميركي واضح، في توسعها وهيمنتها على لبنان والعراق وسوريا واليمن، وكان نصيب تركيا هو التركيز على العلاقات الاقتصادية والتجارية، حيث أصبحت المنطقة من أكبر الأسواق المستهلكة للبضائع التركية
تعزز هذا الصراع على المجال العربي بعد ثورات الربيع العربي، والتغيرات والاصطفافات الدولية الجديدة، والتبدل الذي جرى في سياسات الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسطـ، بدءاً من إدارة أوباما -وضمنها المجال العربي- نحو تراجع أولوية المنطقة ضمن المصالح الأميركية، فكان هذا التراجع فرصة لبوتين للدخول إلى المنطقة، بعد أن كان الدور الروسي في أول التسعينيات من القرن الماضي في الحضيض، ولسوء الحظ كانت هذه الفرصة من خلال التدخل العسكري في سوريا، الذي عُمِّد بدم مئات الألوف وتهجير الملايين من السوريين. وأعاد هذا التدخل رسم خريطة التصارع والاصطفافات في المنطقة
يمكن، وفق ما سبق، رسم خريطة الدول المتصارعة على المنطقة العربية، فدولياً، هناك الولايات المتحدة وروسيا، وإقليمياً هناك إسرائيل وإيران وتركيا، تلك القوى التي تتصارع ضمن المساحات التي توفرها القوى الكبرى. تنامى دور إسرائيل لدى معظم الكيانات العربية المعتمدة في الحفاظ على عروشها وأمنها على الولايات المتحدة، خاصة بعد تراجع الدور الأميركي، لدرجة عدّ كثير من هذه الكيانات حليفاً غير موثوق به وبدؤوا بإقامة العلاقات مع روسيا، وكذلك تنامى الدور الإيراني المهدد لأمن تلك الكيانات ووجودها، وهو ما دفع عدداً منها إلى عقد اتفاقات علنية مع إسرائيل، الزعامة فيها لإسرائيل، مهّدت لعلاقات تجارية واقتصادية وسياسية، من دون الالتفات إلى حقوق الفلسطينيين، أما احتلال إسرائيل لفلسطين والجولان، فقد طواه النسيان. وبذلك، تحولت إسرائيل إلى كيان “طبيعي” وحامٍ في المنطقة!
القوة الثانية، إيران، التي ظهرت بعد تجربتها الناجحة في التوسع في لبنان عام 1982، معتمدة على تخلي الكيانات العربية عن قضية فلسطين. بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق، حيث سمحت بدور إيراني كبير في رسم خريطة العراق وتكوينه الجديد الذي قام على أساس تقاسم طائفي، ولاحقاً مع الثورات العربية، إذ جعلت منه نقطة الانطلاق لتكوين الميليشيات الطائفية التي ارتكبت أبشع المجازر بحق السوريين، وكرست الدور الإيراني في سوريا بشكل صار من الصعب اقتلاعه، كونه تعمق في عدة مجالات (ديموغرافية وعسكرية واقتصادية وسياسية)، وخلق نوعًا من الترابط الجغرافي بين طهران وبغداد ودمشق وبيروت، وبالطبع لم يتوقف الدور الإيراني عند حدود المشرق العربي، بل تغلغل في خاصرة الجزيرة العربية مهدداً منطقة بأكملها، وحتى حرية الملاحة في المنطقة
وثالث تلك القوى، تركيا، التي اعتمدت في أساس علاقتها على الاقتصاد، حيث تعاملت مع المنطقة كسوق استهلاكي كبير، إذا استثنينا التوتر العسكري مع سوريا حول حزب العمال الكردستاني، وما نتج عنه من اتفاقية أمنية معروفة عام 1998. مع انطلاق ثورات الربيع العربي، اختارت تركيا، بعد فترة، الانحياز إلى جانب تلك الثورات معتمدة على احتمالية نجاح التيارات الإسلامية في الانتخابات، ممثلة بالإخوان المسلمين، ووصولهم إلى السلطة، وهو ما تأكد من خلال تجربتي تونس ومصر، اللتين تم وأدهما نتيجة عدة ظروف، خارجية وداخلية، إضافة إلى الفشل في التوصل إلى حل سياسي مقبول ومتوافق عليه في سوريا وليبيا، وهو ما أضعف الدور التركي، وجعلها تعيد التفكير في علاقاتها مع الكيانات في المنطقة
المسؤولية الكبرى عن تردي الحال إلى هذا المستوى تقع على عاتق الأنظمة الدكتاتورية التي واجهت شعوبها المطالبة بحقوق بسيطة، وقررت أن تمضي في طريق البطش
مع نهاية الحرب الباردة، وانتصار الغرب وخلاصه من العدو المتمثل بالاتحاد السوفياتي وكتلته، غدا الاتجاه المهيمن لدى الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، أن العدو المقبل هو “الإرهاب الإسلامي”، ساعدهم على ذلك التنظيمات الإسلامية الجهادية القائمة -مثلها مثل الولايات المتحدة- على العقيدة الثنائية مهما اختلفت التسمية (الحق/ الباطل، الديمقراطي/ الدكتاتوري)، الذي اختصِر إلى تفكيك الكيانات العربية وتحويلها إلى إمارات وطوائف تستجدي الحماية الأجنبية. وبالطبع، فالمسؤولية الكبرى عن تردي الحال إلى هذا المستوى تقع على عاتق الأنظمة الدكتاتورية التي واجهت شعوبها المطالبة بحقوق بسيطة، وقررت أن تمضي في طريق البطش، حتى لو أدى الأمر إلى تدمير البلاد ورهنها للأجنبي
ما شهدناه من تواطؤ أميركي مع إيران في العراق سابقاً أنتج بلداً ضعيفا تحكمه ميليشيات طائفية، والتوافق الإيراني _الإسرائيلي اليوم على دعم الكيانات الانفصالية في سوريا، وسعي إيران الحثيث لترسيخ الكيانات الطائفية في كل مكان تصله، وخطة روسيا لتحويل سوريا إلى مجموعة من الأقليات، وخطاب الفصائل الجهادية الطائفي الذي أفقد زخم الثورة السورية وأحقية مطالبها، يؤكد بوضوح أن الجماعة العربية برمتها هي المستهدفة، وخاصة بعد الخلاص من بعبع الشيوعية
ويتجلى هذا الأمر في عدد من البلدان العربية، مثل لبنان والعراق وسوريا واليمن، بشكل فاضح من خلال تكريس عدة كيانات على أسس طائفية أو عرقية من دون أي شرعية شعبية، وجودها مرتهن ببطشها للناس ودعم رعاتها، حيث تحولت إلى كيانات تبحث عن الحماية من الخارج، وهو ما جعل منها مجالاً خصباً يحرض القوى الدولية والإقليمية على تقاسم النفوذ فيها، إن لم يكن تقاسمها من جديد، إضافة إلى الإمارات والمشيخات التي تعتمد بحمايتها بالأساس على الولايات المتحدة
وبالتالي تغدو مهمة الخلاص من تلك الكيانات والسعي لاستعادة وحدة هذه البلاد كاملة وبناء الدولة الديمقراطية بكل الوسائل الممكنة هي الهدف الملح أمام شعوبها، وإلا فسنبكي ذات يوم ليس على ذهاب المستقبل فحسب، بل على الماضي الذي لم يبق منه شيء، وسنجد من يكتب قصائد رثاء بالفجيعة، وقد لا نكون أحسن حالاً من بني الأحمر في الأندلس، أو الهنود الحمر في أميركا