يواجه اللاجئون السوريون في لبنان موجة ترحيل تشبه الجحيم اليومي، لا سيما في ظل الأزمة الحالكة التي تريد الحكومة اللبنانية الاستفادة منها للحصول على مساعدات على حساب أرواح اللاجئين المعرضة لخطر فعلي في حال العودة إلى “سوريا- الأسد”.
يوثق هذا التحقيق بعض قصص المآسي لأشخاص تم ترحيلهم وتعرضوا للتنكيل والاقتصاص أو هم مهددون بالترحيل القسري، من دون أي ضمانات على سلامتهم وحمايتهم من الاعتقال والسجن والتعذيب، لحظة تطأ أقدامهم الأرض السورية، بما ينفي فرضية العودة الآمنة التي يتم التذرّع بها.
وتزداد الضغوط باتجاه إعادة اللاجئين إلى بلادهم، مع تصاعد الخطابات العنصرية التي يطلقها مسؤولون سياسيون وكان أبرزهم رئيس حكومة تصريف الأعمال الحالية نجيب ميقاتي، الذي هدد بإعادة اللاجئين في حال لم يتعاون المجتمع الدولي لمساعدة لبنان.
وكان وزير المهجرين في حكومة تصريف الأعمال عصام شرف الدين أعلن عن خطة لبنان لإعادة 15 ألف لاجئ سوري شهرياً.
تؤكد معدة التحقيق أن القصص تم نقلها على ذمة الرواة أي أصحاب هذه المآسي أو أهلهم الذين تواصلنا معهم بسرية تامة، ونمتنع عن ذكر الأسماء الكاملة أو الحقيقية حفاظاً على حياتهم. لعلّ السرد يكون باباً للتدخل الدولي والمحلي لإنقاذ آلاف البشر من مصائر مجهولة، لا سيما أن لبنان ما زال يضم أكثر من 800 ألف (مسجلين في مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين) لاجئ على أراضيه، وجزء كبير منهم سيواجه أخطاراً عدة في حال الترحيل، علماً أن عدداً كبيراً منهم يعيش في ظروف اقتصادية صعبة وفي فقر مدقع.
“أخبّئ ابني في مكان سري”
“خرجنا من سوريا عام 2013، ودخلنا إلى لبنان خلسة لأننا من منطقة القصير، طلعنا بشكل جماعي. فتحت مدرسة للنازحين في لبنان وبدأت العمل. ابني مهندس كهرباء لكنه لم يستطع إيجاد عمل في اختصاصه، ففكر بالانتقال إلى تركيا من طريق التهريب بطريقة غير نظامية، ولكن تم اعتقاله في حلب، وسجن في ظروف سيئة وغير إنسانية”.
حين سألنا الأب المفجوع عن التهمة، قال بحرقة كبيرة: “التهمة بيخلقوها، بيخترعوها!
عمه كان طبيباً وأسس سابقاً مستشفى ميدانياً للمصابين، وهذا ممنوع.
وعلى رغم أن الرجل أصبح الآن في ألمانيا إلا أنه مطلوب وقد تم اعتقال ابني لهذا السبب…في التحقيقات كانت كل الأسئلة عن عمه… تعرض للتعذيب والتنكيل لأن عمّه أسّس ذات مرة مستشفى ميدانياً”.
يتابع الأب: “ضل 7 أشهر بفرع فلسطين وشهر في أفرع أخرى، طلع تعبان كتير جبتو على لبنان عالجتو… لساتو مطلوب ولكن طلعوه بسبب وضعه الصحي بسبب التعذيب وسوء التغذية والأمراض. فقد أكثر من نصف وزنه. عرضناه على أطباء وبدأ يتحسن قليلاً. بقي معنا 12 يوماً”.
بعد ذلك أتت دورية للمخابرات العسكرية اللبنانية، أخذوه من خيمتنا في بلدة عرسال البقاعية إلى ثكنة أبلح، وبقي هناك أسبوعاً، ثم أرسلوه إلى مخفر درك عرسال ليبقى تحت نظرنا بسبب وضعه الصحي المتردي وحاجته إلى تغذية خاصة.
بقي هناك شهراً، وحين وافق القاضي على إخلاء السبيل تم رفضه، مع تحويل مصطفى إلى مديرية الأمن العام في بعلبك.
يقول الأب: “جلست مع المسؤول، وقال إن قرار ترحيله أتى من مدير عام الأمن العام عباس ابراهيم، بقي يومين ثم أخذوه إلى معبر جوسي باتجاه حمص وسلموه للأمن السوري وعاد إلى السجن السوري وبقي أكثر من أسبوعين. استطعنا إخراجه بالواسطات وبدفع الأموال، ولكن ما زال مطلوباً، ولا نعرف ماذا نفعل، ما زلنا نحاول تخبئته في الجبال وعند الأقارب”.
وضع مصطفى الصحي سيئ للغاية، وهو مهدد بالاعتقال والترحيل مجدداً في حال عرفت السلطات اللبنانية بأمره، وهو مهدد أيضاً بالسجن والموت في حال قبض عليه الأمن السوري.
وإذ نمتنع عن ذكر تفاصيل إضافية حفاظاً على حياته، لكن تبدو الأفق مقفلة تماماً في قصته أسوة بقصص أخرى، تحتاج إلى تدخل على مستوى دولي لإيجاد مكان آمن للهاربين من مقصلة الترحيل.
انتهاكات قانونية
ترفع الحكومة اللبنانية ملف “العودة الآمنة” أو الترحيل كورقة رابحة في وجه المجتمع الدولي، بهدف الحصول على دعم مالي للأزمة اللبنانية، من دون أي اعتبار للقصاص الذي ينتظر هؤلاء والخطر الحقيقي على حياتهم.
في هذا الإطار، يؤكد المحامي محمد صبلوح لـ”روزنة” أن هذه القرارات تنتهك اتفاقية مناهضة العنف الدولية، فترحيل أي شخص إلى مكان يمكن أن يتعرض فيه للخطر أو التعذيب، مخالفة حقوقية وقانونية وإنسانية.
ويعلق على الإجراءات الأخيرة “هذا القرار أتى صادماً من الحكومة اللبنانية التي سبق أن وقعت على اتفاقيات دولية تلتزم بها وهذا اعتراف علني بالتنصل من الاتفاقيات الدولية الخاصة بالترحيل لا سيما اتفاقية مناهضة العنف/ المادة الثالثة التي تؤكد عدم تسليم أي شخص يمكن أن يتعرض للتعذيب في بلده”.
ويضيف: “الموضوع أكبر من أن يكون مجرد ترحيل سياسي بين النظام السوري ولبنان، إنه نوع من الضغط بالترحيل بحجة الأماكن الآمنة المزعومة، للحصول على أموال وتخفيف شروط صندوق النقد الدولي”.
“مجلس الدفاع الأعلى أصدر قراراً بأن أي نازح سوري دخل بعد نيسان 2019 يتم ترحيله، لأنه يعتبر غير لاجئ. ونحن كقانونيين نعتبر هذا القرار مخالفاً للقوانين اللبنانية والاتفاقات الدولية. وعلى رغم ذلك الأجهزة اللبنانية سارعت خصوصاً الأمن العام إلى تنفيذ القرار. وهناك خشية حقيقية في موضوع الترحيل بعد قرار رئيس الحكومة، وهذا بالطبع يؤدي إلى غضب المجتمع الدولي إزاء المخالفات المتكررة”.
وفي حال حصل ذلك يقول صبلوح، “تتحمل الحكومة اللبنانية مسؤولية حياة المرحلين، بحجة الازمة الاقتصادية ومحاولات للضغط من أجل الحصول على مال. هذا القرار يضحي بأرواح الناس، وبالتالي المنظمات الحقوقية لن تقف مكتوفة الايدي وفي حال تطبيق الترحيل الجماعي، سيصار إلى اللجوء إلى الأمم المتحدة لمحاسبة المسؤولين”.
أنس وأخوته…
في أيار 2022، اعتقل الإخوة الثلاثة وتعرضوا وفق شهادتهم لـ”روزنة” للتعذيب والضرب.
يخبر أنس، أحد الإخوة الثلاثة، “القصة صارت بسوريا من سنتين، أخي الوسطاني اتهم بجريمة سرقة فهرب لهون علبنان. رُفعت عليه قضية وقتها، ومنذ فترة قصيرة أتت صاحبة الدعوى إلى لبنان وتواصلت معه، من أجل توقيع ورقة إسقاط حق وتنازل عن الدعوى. لكنها في الواقع كانت تريد تدمير حياته، فرفعت بعد ذلك مذكرة انتربول إلى النيابة التمييزية، فأتت المباحث الجنائية وقبضت علينا كلنا!”.
يسأل أنس: “شو ذنبي أنا ضربوني وتركت مرتي وولادي وتورطت بهالقصة؟”. ينتظر أنس الموجود حالياً في لبنان “القرار السوري ليعرف مصيره ومصير أخيه الذي صدر أيضاً قرار بترحيله لأنه دخل إلى لبنان بعد عام 2019″، مؤكداً أن منظمات عدة تدخلت وتم إبراز إسقاط الحق القانوني لكن دون جدوى. يخشى أنس من الترحيل ومن العقاب الذي قد ينتظره وإخوته في سوريا، لا سيما أن لهم أخاً آخر، اختفى منذ عام 2014 في سوريا ولا يعرفون عنه أي شيء.
“سلّموني قرار الترحيل”
“ذهبت لتجديد إقامتي فأعلموني أن هناك قرار ترحيل صادراً بحقي، مع العلم أنني تأخرت في تجديد أوراقي بسبب الإقفال القسري أيام الحجر الصحي وكورونا، وحين ذهبت لتجديد إقامتي وقدمت الأوراق المطلوبة، أعلمني الأمن العام بأن علي أن أتدبر أموري وأرحل”، يشرح مازن، وهو لاجئ في لبنان منذ سنوات.
“ما عم إسترجي إضهر من البيت إلا للضرورة، بروح بجيب حاجياتي وبرجع بسرعة… إذا اعتقلوني يعني رح ارجع عسوريا ورح اتعاقب والله أعلم إذا بضل عايش”.
يعيش مازن حالياً في غرفة صغيرة في أحد الأبنية في بيروت، لا يستطيع العمل أو الخروج، فمروره على أي حاجز أمني قد يعني ترحيله إلى سوريا التي هرب منها عام 2014، حيث من الطبيعي أن يُعاقب بشكل قاس لا سيما أنه معتقل سابق، وقد تهرب من التجنيد الإجباري، وهو معروف بمعارضته وعائلته النظام.
خلال السنوات الأخيرة خفت حدة القتال في سوريا، وانحسمت المعركة تقريباً لمصلحة النظام السوري وحلفائه، وقد فرضت الحكومة سيطرتها على أكثر من 70 في المئة من البلاد.
وعمدت السلطات السورية إلى تشجيع اللاجئين علناً على العودة إلى وطنهم، في حين بدأت دول مضيفة للاجئين في إعادة النظر في ما تقدمه من حماية للأشخاص الآتين من سوريا.
وفي لبنان وتركيا، حيث يواجه اللاجئون عموماً ظروفاً معيشية صعبة وممارسات تمييزية، تمارس السلطات ضغوطاً على اللاجئين السوريين لحملهم على العودة إلى وطنهم. وحتى في أوروبا، قامت الدنمارك والسويد بإعادة تقييم تصاريح إقامة طالبي اللجوء القادمين من مناطق تعدها هاتان الدولتان آمنة لعودة اللاجئين، مثل دمشق وريف دمشق. وكأن هناك قراراً جامعاً بتسليم رقبة كل من هرب من بطش النظام، لتخفيف العبء عن كاهل الدول المضيفة.